فصل: تفسير الآيات (83- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما القطر فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد هو النحاس قال قتادة وكانت باليمن أنبعها الله له قال السدي ثلاثة أيام فقط أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها وقوله: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} أي وسخر الله له من الجن عمالا يعملون له ما يشاء لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته ومن خرج منهم عن الأمر عذبه ونكل به {يعملون له ما يشاء من محاريب} وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس وتماثيل وهي الصور في الجدران وكان هذا سائغا في شريعتهم وملتهم {وجفان كالجواب} قال ابن عباس الجفنة كالجوبة من الأرض وعنه كالحياض وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وعلى هذه الرواية يكون الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبي فيه الماء كما قال الأعشى:
تروح على آل المحلق جفنة ** كجابية الشيخ العراقي يفهق

وأما القدور الراسيات فقال عكرمة أثافيها منها يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن وهكذا قال مجاهد وغير واحد ولما كان هذا بصدد اطعام الطعام والاحسان إلى الخلق من انسان وجان قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} وقال تعالى: {والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد} يعني أن منهم من قد سخره في البناء ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر والآلي وغير ذلك مما لا يوجد الا هنالك وقوله: {وآخرين مقرنين في الأصفاد} أي قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الأصفاد وهي القيود هذا كله من جملة ما هيأه الله وسخر له من الأشياء التي هي من تمام الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ولم يكن أيضا لمن كان قبله.
وقد قال البخاري ثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا من الجن تفلت على البارحة ليقطع على صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا» وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة وقال مسلم حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي ادريس الخولاني عن أبي الدرداء قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فسمعناه يقول أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال إن عدو الله ابليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة» وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به وقال أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا مرة بن معبد ثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال لو رأيتموني وابليس فاهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعي هاتين الابهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» روى أبو داود منه «فمن استطاع...»إلى آخره عن أحمد بن سريج عن أحمد الزبيري به.
وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء الف امرأة سبعمائة بمهور وثلثمائة سراري وقيل بالعكس ثلثمائة حرائر وسبعمائة من الإماء وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما جدا قال البخاري حدثنا خالد بن مخلد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل فلم تحمل شيئا الا واحدا ساقطا أحد شقيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قالها لجاهدوا في سبيل الله» وقال شعيب وابن أبي الزناد تسعين وهو أصح تفرد به البخاري من هذا الوجه وقال أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا يزيد أنبأنا هشام بن حسان عن محمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة إلا امرأة ولدت نصف انسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قال إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل» إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم ثنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: «قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله الله ولم يستثن فما ولدت الا واحدة منهن بشق انسان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو استثنى لولد له مائة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عز وجل» تفرد به أحمد أيضا. وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله قال ونسي أن يقول إن شاء الله فأطاف بهن قال فلم تلد منهن امرأة الا واحدة نصف إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته» وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبدالرزاق به مثله وقال إسحاق بن بشر أنبأنا مقاتل عن أبي الزناد وابن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الرحمن عن أبي هريرة «أن سليمان بن داود كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوما لأطوفن الليلة على الف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يستثن فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن الا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عز وجل» وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر فانه منكر الحديث ولاسيما وقد خالف الروايات الصحاح وقد كان له عليه السلام من أمور الملك واتساع الدولة وكثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لأحد قبله ولا يعطيه الله أحدا بعده كما قال: {وأوتينا من كل شيء} وقال: {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي انك أنت الوهاب} وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه واسداه من النعم الكاملة العظيمة إليه قال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} أي أعط من شئت واحرم من شئت فلا حساب عليك أي تصرف في المال كيف شئت فإن الله قد سوغ لك كلما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول فإن من شأنه أن لا يعطي أحدا ولا يمنع أحدا إلا بإذن الله له في ذلك وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين فاختار أن يكون عبدا رسولا وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في ذلك فأشار إليه أن تواضع فاختار أن يكون عبدا رسولا صلوات الله وسلامه عليه وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة فالله الحمد والمنة.
ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه السلام من خير الدنيا نبه على ما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجميل والقربة التي تقربه إليه والفوز العظيم والاكرام بين يديه وذلك يوم المعاد والحساب حيث يقول تعالى {وان له عندنا لزلفى وحسن مآب}.

.وفاته ومدة ملكه وحياته:

قال الله تبارك وتعالى {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لأي شيء أنت فان كانت لغرس غرست وان كانت لدواء أنبتت فبينما هو يصلي ذات يوم اذ رأى شجرة بين يديه فقال لها ما اسمك قالت الخروب قال لأي شيء أنت قالت لخراب هذا البيت فقال سليمان اللهم عم على الجن موتى حتى تعلم الانس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا والجن تعمل فأكلتها الأرضة فتبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين» قال وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال: «فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء» لفظ ابن جرير وعطاء الخراساني في حديثه نكارة وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا وهو أشبه بالصواب والله أعلم.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فيها فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه الا نبتت في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها ما اسمك فتقول الشجرة اسمي كذا وكذا فان كانت لغرس غرسها وان كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا فيجعلها كذلك حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها ما اسمك فقالت أنا الخروبة فقال ولأي شيء نبت فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال سليمان ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فتنزعها وغرسها في حائط له ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول الست جليدا ان دخلت فخرجت من ذلك الجانب فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب الا احترق ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتا فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وهي قراءة ابن مسعود فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا فايقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له وذلك قول الله عز وجل {ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} يقول تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ثم إن الشياطين قالوا للأرضة لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ولَكِنا سننقل اليك الماء والطين قال فانهم ينقلون اليها ذلك حيث كانت قال الم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها بها الشيطان تشكرا لها وهذا فيه من الاسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في كتاب القدر حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الأعمش عن خيثمة قال قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت اذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني قال ما أنا أعلم بذاك منك انما هي كتب يلقي الي فيها تسمية من يموت وقال اصبغ بن الفرج وعبدالله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قال سليمان لملك الموت إذا أمرت بي فاعلمني فأتاه فقال يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي فاتكأ على عصاه قال فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوك على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت قال والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي قال فبعث الله دابة الأرض عني إلى منسأته فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا قال فذلك قوله: {ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} قال اصبغ وبلغني عن غيره أنها مكثت سنة تأكل في منسأته حتى خر وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم والله أعلم.
قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره أن سليمان عليه السلام عاش ثنتين وخمسين سنة وكان ملكه أربعين سنة وقال إسحاق أنبأنا أبو روق عن عكرمة عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة والله أعلم وقال ابن جرير فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفا وخمسين سنة وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير وقال ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل. اهـ.

.تفسير الآيات (83- 86):

قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم سبحانه ذكر من سخر لهم العناصر التي منها الحيوان المحتوم ببعثته تحقيقًا لذلك، ذكر بعدهم من وقع له أمر من الخوارق يدل على ذلك، إما بإعادة أو حفظ أو ابتداء، بدأهم بمن أعاد له ما كان أعدمه من أهل ومال، وسخر له عنصر الماء في إعادة لحمه وجلده، لأن الإعادة هي المقصودة بالذات في هذه السورة فقال: {وأيوب} أي واذكر أيوب، قالوا: وهو ابن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان صاحب البثنية من بلاد الشام، وكان الله قد بسط عليه الدنيا فشكره سبحانه ثم ابتلاه فصبر {إذ نادى ربه} أي المحسن إليه في عافيته وضره بما آتاه من صبره {أني مسني الضر} بتسليطك الشيطان على في بدني وأهلي ومالي وقد طمع الآن في ديني، وذلك أنه زين لامرأة أيوب عليه السلام أن تأمره أن يذبح الصنم فإنه يبرأ ثم يتوب، ففطن لذلك وحلف: ليضربنها إن برأ، وجزع من ذلك، والشكوى إلى الله تعالى ليست من الجزع فلا تنافي الصبر، وقال سفيان بن عيينة: ولا من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله تعالى.
{وأنت} أي والحال أنك أنت {أرحم الراحمين} فافعل بي ما يفعل الرحمن بالمضرور، وهذا تعريض بسؤال الرحمة حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وربّه بأبلغ صفاتها ولم يصرح، فكان ذلك ألطف في السؤال، فهو أجدر بالنوال {فاستجبنا له} أي أوجدنا إجابته إيجاد من كأنه طالب لها بسبب ندائه، هذا بعظمتنا في قدرتنا على الأمور الهائلة، وسبب عن ذلك قوله: {فكشفنا} أي بما لنا من العظمة {ما به من ضر} بأن أمرناه أن يركض برجله، فتنبع له عين من ماء، فيغتسل فيها، فينبت لحمه وجلده أحسن ما كان وأصحه ودل على تعاظم هذا الأمر بقوله: {وءاتيناه أهله} أي أولاده وما تبعهم من حشمه، أحييناهم له بعد أن كانوا ماتوا {ومثلهم} أي وأوجدنا له مثلهم في الدنيا، فإن قوله: {معهم} يدل على أنهم وجدوا عند وجدان الأهل، حال كون ذلك الكشف والإيتاء {رحمة} أي نعمة عظيمة تدل على شرفه بما شأنه العطف والتحنن، وهو من تسمية المسبب باسم السبب، وفخمها بقوله: {من عندنا} بحيث لا يشك من ينظر ذلك أنا ما فعلناه إلا رحمة منا له وأن غيرنا لم يكن يقدر على ذلك {وذكرى} أي عظة عظيمة {للعابدين} كلهم، ليتأسوا به فيصبروا إذا ابتلوا بفتنة الضراء ولا يظنوا أنها لهوانهم، ويشكروا إذا ابتلوا بنعمة السراء لئلا تكون عين شقائهم، واتبعه سبحانه بمن أنبع له من زمزم ماءً باقيًا شريفًا، إشارة إلى شرفه وشرف ولده خاتم الرسل ببقاء رسالته ومعجزته فقال: {إسماعيل} أي ابن إبراهيم عليهما السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيرًا بعد أن كان هالكًا لا محالة، ثم جعلناه طعام طعم وشفاء سقم دائمًا، وصناه- وهو كبير- من الذبح فذبحه أبوه واجتهد في إتلافه إمتثالًا لأمرنا فلم ينذبح كما اقتضته إرادتنا {وإدريس} أي ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي احييناه بعد موته ورفعناه مكانًا عليًّا، وهو أول نبي بعث من بني آدم عليهما السلام {وذا الكفل} الذي قدرناه على النوم الذي هو الموت الأصغر، فكان يغلبه فلا ينام أو إلا قليلًا، يقوم الليل ولا يفتر، ويصوم النهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب.
فقدره الله على الحياة الكاملة في الدنيا التي هي سبب الحياة الكاملة في الأخرى وهو خليفة اليسع عليه السلام تخلفه على أن يتكفل له بصيام النهار وقيام الليل وأن لا يغضب، قيل: إنه ليس بنبي وعن الحسن أنه نبي، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه إلياس، وقيل: هو يوشع بن نون، وقيل: زكريا- عليهم السلام.
ولما قرن بينهم لهذه المناسبة، استأنف مدحهم فقال: {كل} أي كل واحد منهم {من الصابرين} على ما ابتليناه به، فآتيناهم ثواب الصابرين {وأدخلناهم} ودل على عظمة ما لهم عنده سبحانه بقوله: {في رحمتنا} ففعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفًا لهم؛ ثم علل بقوله: {إنهم من الصالحين} لكل ما يرضاه الحكيم منهم، بمعنى أنهم جبلوا جبلة خير فعملوا على مقتضى ذلك. اهـ.